الثلاثاء، 19 مارس 2013

                                   بالحزام بدأنا ... والبقية تأتى


.... ونقصد حزام الحزم والالتزام ، وليس حزام الرقص على الأنغام ، كما حاول الساخرون والمتفرجون من على الأسوار أن يصوروه ، ويهونوا من شأنه ، وتصدى المدافعون عنه بدفاع يرتكز على أرضية ضيقة ، وحجة ضعيفة ، وهى التأمين والأمان للسائقين ، والراكبين معهم ، أى الخاضعين لمغامراتهم ورعونتهم ، لعلهم يسلمون أو ينقذون .
          حقاً ، أن من ينظر إلى أحوال النقل والتنقل ، بين الناس والأبنية والممتلكات ، بشتى أنواع المركبات ، الصالح منها ، أو الملوث بالضجيج والسميات ، فإنه لا يرى سوى فوضى تدعو إلى الضحك من شدة الأسى ، والأخذ بالشفقة على المترجلين المذعورين ، وكأنه يتنقل في سيرك ، أو يشهد تمثيلية هزلية تتكرر أمامه يومياً ، بلا رادع ولا وازع .
          أما المضمون الحقيقي "للحزام" ، فلا يقتصر على ظاهره المادي ، وإنما يمتد إلى باطنه المعنوي ، وكنايته العريضة .  فالحزم في اللغة ، هو ضبط الإنسان أمره ، والحازم هو العاقل المميز ذو الحنكة ، المحترز في الأمور . وفي الحديث سئل:  ما الحزم ؟ قال الحزم أن تستشير أهل الرأي وتطيعهم . وفى حديث آخر ، قد نهى  أن يصلى الرجل بغير حزام . فشمل في الحديثين معناهما المادي والمعنوي معاً .
          أن أشد الناقدين لاستعمال الحزام الذى فرضته  " تشريعات المرور " ، الذين انتقدوا التركيز الصارم على من يخالف استعماله ، بينما توجد فى تلك التشريعات مواد معطلة ، تستحق استعمال نفس الدقة فى تطبيقها ، ومواد تحتاج لتعديل ، ومواد يجب أضافتها 0 ومن ثم فلا خلاف بين النقاد وبين المؤيدين ، سوى فى أولويات التطبيق ، أو كما قالها لي سائق التاكسي البسيط : " عايزينا نلبس كرافتة من غير قميص و إحنا فى الخلاء " 0 أى يطالب بارتداء الزي اللائق فى المكان المناسب 0 ومعناه استيفاء الأهم قبل المهم .
          فالجانب المعنوي لربط الحزام ، مهما قصرت مدة القيادة أو سرعتها ،هو أن مجرد الجلوس أمام عجلة  القيادة ، والاهتمام بتأدية واجب لازم قبل البدء فى تسيير المركبة ، ثم النظر فى المرآة للتأكيد من موقع السيارة بالنسبة للمركبات الأخرى ، ثم التحرك بعدها عن يقظة ، يعطى السائق الشعور بأن القانون يحوطه ، فيتذكر منذ اللحظة الأولى ببقية قيوده ومعانيه ، وما أشبه ذلك بخلع أحذيتنا قبل الدخول فى الأمكنة المقدسة ، أو التعقيم قبل دخول غرف العمليات الجراحية ، أو وضع  القاضي وشاح القضاء عند دخوله الجلسة ، أو ارتداء الجندي للزي الرسمي ، وكلها مسبقات الأقدام على فعل جاد توحي للسائق  أنه يقود غرفة حديدية صماء فى وسط مثيلات لها ، وجمهور يقضى مصالحه فى خوف من الخطر ، بجانب  ما تحدثه من ضجيج وتلوث  هواء ، وما يمكن أن تحدثه غرفته من صدام مميت فإذا ما راعى ذلك ، فإنه يبدأ بداية جيدة ، لمنظومة متكاملة من المراعاة والالتزام ، سوف تصبح ، بمضي الزمن ، درب من دروب الحياة .
          ومن هنا جاء هذا العنوان بغرض ترسيخ فكرة الحزم ، فى عقول من ينظرون الى النقل والتنقل على أنه مجرد ميزة أكتسبها الراكب على غيره ، أو عملية تجارية ينظمها القانون ، أو أن القانون ينادى بمثاليات غير قابلة للتطبيق ، فيصبح هو والعدم سواء .   نعم إننا بدأنا بالحزام ، فماهى البقية ؟
          أنها العبارة الفلسفية التي نطق بها سائق التاكسي تعبيرا عن رغبة الناس فى تحقق القانون بأكمله 0 فالوفاء بالالتزام لا يتجزأ 0 مالم يتفق أطرافه على التجزئة، أو ينص عليه القانون 0
          ومما لاشك فيه أن تشريعات المرور وضعت من بعد بحث مطول وجاد ، وعن خبرة، أو عن اقتباس يرجى تحقيقه ، للحد من المخاطر والجماح ، إلا أنه بالرغم من إسهابها فى التفاصيل ، أغفلت وضع السبل المؤدية إلي الحزم فى شكل مواد مكملة لها .
          وأول تلك الوسائل هي رخصة القيادة ، فإصدارها يعنى أنها شهادة بلياقة حاملها ومقدرته على القيادة ، وبالتالي يتحمل من يصدرها مسئولية إصدارها فيما لو ثبت العكس 0أما مسئولية اللياقة البدنية والعقلية فأمر يسأل عنه المتخصصون ، وهى قابلة للإلغاء قبل مضى 3 سنوات على إصدارها إذا ثبت أن حائزها غير جدير بالثقة فى حرصه واحترازه ، فتتجدد على فترات أقصر كلما تقدمت السن 0 أما الرخصة الحرفية فقد نالت حقها فى التشريع .
          غير أن مخالفة أصول التسيير فمفتوحة لمن يتسطيع أن يدفع الثمن ، مما يجعل الغرامة عديمة الجدوى 0 والواجب أن نصدر رخصة تدون بها نقاط تحاسب عن المخالفات، بحسب جسامتها ، فإذا بلغت النقاط حد معين ، يتحتم إلغاء الرخصة أو تعليقها لفترة غير قصيرة .
          أما عن أن الحزام الحالي فهو أنواع غير معتمدة، بحسب مواصفاتها القياسية التي يجب أن تعتمد ، من إدارة المرور المركزية ، حتى الجمهور أن يثق فى فاعليتها ، وفى صحة تركيبها بالمركبة ، حيث أصبح الحزام  سلعة مشبوهة ، فتحت الأبواب للتجارة السوداء . أما عن قيمة الحزام كوسيلة أمان للراكبين ، فأن الأمان المتكامل يتم بتركيب حزامين آخرين بالمقاعد الخلفية ، بخاصة فى كل سيارة تخرج إلى الطرق السريعة . أما عن ضيق الحزام بالنسبة للصدور العريضة ، والبطون المتكرشة ، فالرد عليها بأن أحزمة الطائرات ، وهى أخطر من حوادث السيارات بكثير ، تلف حول البطن، وتفي بالغرض من استعمالها عند الصعود والهبوط بالطائرة .
          ويطول بنا الحديث عن سلامة الطرق هندسيا ، وعن المركبات الفاسدة ، وعن مشاكل سيولة المرور وعلاقتها بمواعيد العمل ، وعن أماكن الانتظار والمبينت ، وعن استعمال آلة التنبيه ، وعن إصدار التراخيص لسيارات جديدة ، وجميعها يحتاج لضوا بط متطورة ، وتعديل تشريعات أخرى تتصل بها ، ولنا فيها آراء لايمكن الخوض فيها هنا .
          غير أن أهم ما لا يجوز أن نغفله ، هو دور المارة والمترجلين ، وما لهم من حقوق ، وما عليهم من واجبات لم تتضح فى تشريعات المرور - فأنهم الطرف الثالث فى مثلث المسئولية،ودورهم جوهرى ، لانهم يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى السائقين ، وأن وعيهم لازال غائب ، وتعليمهم مهمل ، وسلوكهم مخجل .
          فكثيرا ما يتسبب هؤلاء بعشوائيتهم ، فى حوادث غير ضرورية  ، لتحشرهم بين السيارات وعبورهم الخاطىء .  وهم فى ذات الوقت أصحاب حقوق حميهم من اضطراهم بالتسابق كالجرذان لعبور الشوارع، وكأن الغلبة للراكبين ، أما هم ، فمهمشون .
          أن الأمر واضح ، ويتلخص فى أنه غيبة التنسيق بين أطراف المشكلة الثلاث ، التى لايكبح جماحها قانون ، أووضع شرطى لكل سيارة ، وآخر لكل مواطن .
          ومن هنا جاء قصدنا من " الحزام "  المعنوى ، أو معنوية الحزام ، التى يحكمها منطق سليم فى بلد مزدهم ، بتخليق ضميرا المعايشة الجماعية ، عن فهم ينظمه القانون ، ولنبدأ بتحديد، من ؟ يركب ماذا ؟ متى ؟ والى أين ؟ و عندئذ تسير الأمور بانسياب تام فى ظل قوة أهلية تعاون الرسميين على أداء مهمتهم ، على الأقل فى الإبلاغ السليم عن المخالفين ، البعيدين عن نظر القانون .


         فأهلا بالحزام بداية ، وفى انتظار تحقيق الحزم بصبر ، و بعدها أخشى أن يقل دخل الدولة من حصيلة مخالفات المرور !!

= = = = = = = =


الاثنين، 4 مارس 2013

بين التردد ... والاقدام !
                                                             
               أذهب أم أتوارى ــ أبوح أم أصمت ــ أدلى برأيى أم أقاطع ـــ وغيرها من جحافل أخرى من التحوطات ، والتوجسات ، والخلجات ، التى تطرأ على عقل الانسان ، وتتخلل ثناياه ، سعياً وراء اتخاذ قرار فيما هو مطروح عليه ، أو يطلب منه ،الادلاء برأيه فيه ، سواء بالموافقة أو بالرفض ، بالتصديق أو بالمعارضة ، بالافتاء أو بالاحجام عنه ، وبخاصة فى أمر لا يعنيه وحده ، فحسب ، بل يخص قومه وجماعته، وبنى وطنه أجمعين .


فمساءلة النفس تلك ، فى حد ذاتها ، لا تنبع من ضمير منعدم ، ولا تخرج عن عقل سقيم ، بل هى الضمير الحى ، غير المنحاز ، والمبعد عن التحزب ، أو المتأثر بالغوغائية الغاشمة .
فالأمر هنا استفتاء مصيرى ، والاحجام عنه ليس من الفضائل ، بل التردد فى اعطاء الرأى يعنى الابتعاد عن صحيح "المواطنة" ، وهو ليس من شيم الأحرار ، بل من طبائع المقيدين .
 فعندما وضع الأغريق دستورا ، تحلى بحكمة أرسطو وافلاطون ، وكان الهدف منه التحلل من العبودية ، والرضوخ ، والخضوع ، التى مارسها الطغاة ، والحكام المستبدين من عهد الفراعنة ، أو خضوع المحكومين بعظماء بلاد الفرس ، بزغت فكرة "المواطنة" ، أى اعتبار كل شخص يعيش على اراضى الاغريق بأنه مواطن ، حتى وأن كان غريباً ، فله الحق فى المعيشة ، بحرية فى العمل ، وانطلاق الرأى ، وكان وصف الحياة فى ظل الدستور ، هى "الحياة الطبيعية للانسان الطبيعى" ــ ولا تفسير للمواطنة سوى أنها حق فى الحياة الطبيعية لكل انسان ، وهى أيضا عبارة "ثورية" الى اليوم .
وكما قال " بسكال" فالانسان يميل دائما الى التغيير حتى لا يعتريه الملل ، مهما كان التغيير محدوداً ، إلا أنه يبعث الحيوية ، والتوثب ، فى النفوس الراكدة ، فيقول "أن البشر يبذلون كل جهدهم ليجعلوا الحياة فى حالة تدفق وجريان . لأن الراحة التامة ، هى الموت ــــ والانسان لا يكره بقدر ما يكره ، الراحة التامة من غير أن ينخرط فى هيام مستمر أو أنفعال ، أو عمل . بل حتى الحيوان ، قال عنه "داروين" ، أن لدى بعضه غريزة التغيير، فله نزواته ، ونفوره ، واستعذابه للجمال ــ لمجرد التغيير من وقت الى أخر" !
ومعنى ذلك ، أن مقاومة التغيير ، هو رفض للمواطنة، التى تحرر الانسان من القيود ، وأن المناداة بالاستفتاء ، يؤكد ذلك المعنى ، اذ لجأ الحاكم الى استطلاع رأى المواطن ، ليقف على ركيزة ديموقراطية ، فلم يمنع أى قلم ، أو صوت ، من القول الحر ، لكل من تطوع بعرض رأية . أما الساكتون ، فلا عذر لهم عن سكوتهم ، أو عن همسهم ووساوسهم .
فأن أخذنا الأمر بمنطق الواجب ، فأن المجند لا يؤخذ رأيه عند تجنيده ، لأنه واجب وطنى ، والمريض لا يؤخذ رأيه فى علاجه ، لأن شفائه عمل انسانى ،ولا يسأل المصلى عن سبب صلاته ، لانه فرض دينى ، ، وسواء ،أكان دستور قديم أو دستور جديد ، فان الاستفتاء عليه، واجب قومى ، لأنه الشكل الذى يختاره الناس من واقع حالهم وعقيدتهم ، وموروث تراثهم ، لانتظام الحياة العملية ، والتنسيق بين السلطات ، على اساس من العدل والمساواة فى الحقوق ، والتكافل ، والواجبات .
ولئن كانت هفوة الدساتير بألف هفوة ، أو كما يقولون أن "غلطة المعلم بألف" ، فأن المطلوب هو التقدم ، فى حد ذاته ، والوقوف أمام صندوق الاستفتاء هو واجب على مواطن يشعر بالمسئولية ، حتى وأن كانت اجابته "بالسالب" ، فذلك دليل صحى على أن هناك رأى ، ونبض حيوى ، وشجاعة ، وحرية عند من يقدرون شأن المواطنة .
ولم يقاطع المواطن الأوروبى الاستفتاء على "الدستور الأوروبى الموحد" وذلك من واقع تحضره ، وكان ذلك سبباُ من أسباب مراجعة نصوصه للأفضل .
فعلى الله الاعتماد ، بالاقدام من غير تردد ، أو إحجام .
                                                         بقلم :  د/ جمال غوردون

الأربعاء، 27 فبراير 2013

الأسرة ،  ثم الدولة ، فالفرد

                إختارت الإنسانية نظام الأسرة كوحدة إجتماعية تتكون من أب يرتبط بزوجة ينتقيها ، ويحبها ، ثم يتولد عن ذلك الحب أولاداً يحبهم أيضاً ، ويرعاهم بقدر ما يستطيع من جهد يبذله ، لإسعاد تلك الوحدة المقدسة ، التي منها تتشكل المجتمعات والأمم .

                وبفحص ذلك التشكيل الأزلي ، نجد أنه يبدأ برغبة الفرد في إشفاء غريزته الطبيعيـة ، مـن ناحيـة ، ثم تخليق مجموعة تحيط به ، وترضيه ، وتتكرر فيهم صورته ، وتنتقل إليهم أمواله ، فهو المسئول الأول عن إعالة تلك المجموعة التي أسهم بها في بناء وطنه .



                وقد أعطيت للأسرة المكونة من شخصين وأولادهما إسم "الأسرة النووية" أي نواة المجتمع ، كما أطلق على الأسرة الأكثر عدداً ، وأوسع إنتشاراً ، إسم "الأسرة الممتدة" ، وهو تعبير تقني – للتمييز بينهما .  فالأخيرة يمتد تكوينها إلى الأقارب والأصهار ، لتصبح "عزوة" متعددة الأنشطة ، ذائعة الصيت والسطوة ، إلى أن بدأ هذا النوع في الإنحسار عندما أدخلت عليها أنظمة أخرى ، إستندت إلى فكر مخالف ، فبدأ نزوح أهل الريف بكثرة إلى الحضر وإزداد عدد الأسر النووية ، غير المتساندة تقليدياً ، أو مادياً ، متجردة من التكافل والإحسان ، ونقلت إلى الحضر أعباء أضافت إلى همومه ، وأعتبر الأفراد ، وليست الأسر ، هم الذين تتكون منهم الأمة ، وتقع على أولادهم مسئولية العمل من أجل الجميع ، على أن تتكفل الدولة بإطعامهم ، وتعليمهم ، وتكسيتهم ، وتشغيلهم ، وحتى الترفيه عنهم .

                وبذلك إنتقلت عادات الريف ، وطرق المعيشة فيه ، إلى الحضر ، وأخذت معها الأخلاقيات المقيدة للإباحية ، والجهر ، فإنقلب ميزان الإحترام المتعارف عليه ، وأطرح الإلتزام بالقيم ، وتوارى الإذعان لنداء الضمير ، وسهل الإختفاء عن طائلة القانون ، وأخذ دور المسئولية عن الأسرة في الإضمحلال ، وإنتقل إلى الدولة ، بغير إستعداد .

                غير أن ما حدث يخالف روح الدساتير التي وضعتها الدول ، تمجيداً للأسرة بشكل عام ؛ فالدستور المصري ينص في المادة التاسعة ، على أن "الأسرة أساس المجتمع ، قوامها الدين ، والأخلاق ، والوطنية ؛ وتحرص الدولة على الطابع الأصيل للأسرة المصرية ، وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد ، مع تأكيد هذا الطابع ، وتنميته في العلاقات داخل المجتمع المصري".  وقد تأكد ذلك المعنى في المادة الثانية عشر بإلزام المجتمع والدولة في إتباع هذه المباديء .


                وبغير تعليق على تلك النصوص التي تتحدث عن نفسها ، والواضح أنها لم تأتي من فراغ ؛ فالأسرة ، مهما بلغت من إتضاع ، هي أصل المحبة والحنان ، و"اللقمة" السائغة ، والملبس النظيف ، ومحط للراحة ، والتفاهم ، وإكتساب المعرفة والخبرة من الوالدين تمهيداً للنضج الآتي لا محالة منه ، وإن كان "الطابع الأصيل" للأسرة المصرية يحتاج لمزيد من التوضيح ، هو وصور الحرص ، ومدى مسئولية رب الأسرة عنه .

                إن ذلك الإلتصاق بين الآباء وأولادهم ، هو سر من أسرار السلام الإجتماعي , وعامل من عوامل التقدم وإثبات الذات ، وهو ذو تأثير فعال على سلوكيات الأولاد وجيرانهم ؛ فإذا ما ضاع ذلك الأساس التربوي من أيدي الأسرة ، سيضيع قطعاً من بين أيدي المدرسين .

                فالوالد الذي يطول تركه لمنزله ، أو يسمح لأولاده إطالة البقاء خارج المنزل ، يزرع بذرة التفكك والإتجاه نحو سبل أخرى للسعادة .  كذلك فإن المدرسة ، وهي الأسرة التكميلية ، التي تتهاون في الحفاظ على تلك الحلقة المشتركة بينها وبين البيت ، تفتح الباب للأولاد أن ينحرفوا ، ويتركوا الدراسة مجهين إلى الكسل والفساد ؛ وكما يقول المثل: "إبنك على ما تربيه" .

                لاشك في أن الأسرة قد تأثرت ، وتفككت ، بل وتدهور دورها ، قبل أن تؤدي وظيفتها الأساسية .  وقد تضاعف ذلك عدة مرات عندما تبين أن متوسط عدد إشهادات الطلاق قد بلغ سبعين ألف في العام ، وربما كان نتيجة للتزايد الجزافي ، لمتوسط عدد الزيجات ، الذي بلغ نصف مليون عقد سنوياً .

                فهل تربى في أسرة من ذبح والده ، أو قتل جاره ؟  وهل تربت في أسرة من قتلت زوجها بالإشتراك مع صديقها ؟  وهل تربى في أسرة من إعتدى على مدرسه وطعنه بمطواه ؟  وهل تربى  في أسرة مئات المزورين للعقود والبطاقات الشخصية ؟  وهل تربت في أسرة من عذبت خادمتها وأحرقتها بالنار ؟  وهل تربى في أسرة الآلاف من سائقي سيارات الموت ، "الميكروباص" ، الذين ضربوا بقانون المرور عرض الحائط وتحدوا السلطة في إرتكاب جرائمهم اليومية ؟  وهل . . . وهل . . . ؟  يضاف إلى ذلك ، أن ليس كل تجمع للأسر النووية يستوفي شروط الأسرة ، ذلك لأن البنية التي نشأوا فيها ، والدافع إلى تكوينها غير سليم .

مثال ذلك العشوائيات المنتشرة حول العاصمة والمدن الكبرى ، التي لا يجدي معها أن تنقل من مكانها ، شديد الإنحطاط ، إلى مكان أفضل صحياً وإنمائياً .  ولنا في عشوائية "الكرانتينا" بالإسكندرية ، تجربة شخصية ، ودرساً محزناً ، لكنه ليس مانعاً من التكرار ، على الإطلاق .
                               
                فما أن تم "تهجير" تلك العشوائية ، وتعدادها 17 ألف مخلوق ، يعجز الخيال عن وصفهم ، إلى حي الناصرية الجديدة ، راح "سكانها" الجدد يخلعون الصنابير ومواسير المياه ، قبل أن يخلعوا الأبواب والنوافذ ، ليبيعوها في مكان آخر !

                إن مثل ذلك العمل ، الذي بدر عن مجموعة كبيرة من الناس ، ليس فيهم أسر نووية ، ولا أسر ممتدة ، بل ومنهم من لا يعلم من هم والديه ، هو مثل صارخ على ضرورة دراسة سكان العشوائيات المنتشرة في أجزاء حيوية بالبلاد .  فمنشآتها بالقطع غير قابلة للتطور ، كما ينادي به البعض ، بل مآلها إلى زوال ، وإنتقال الأسر معلومة الأصل ، والموطن ، إلى أماكن أخرى – وإلا كان نقلها مثل نقل المقابر ، مع الفارق بأن الراقدين في المقابر لا يضروا مجتمعاتهم ، مثلما يضرها الأحياء الذين بلا تربية أسرية .

                إن المفهوم العام للأسرة يجب أن يتضح لجميع مستويات المجتمع مهما علا أو إنخفض شأنهم ، ودور رب الأسرة يجب أن يتعاظم .  فالأسرة عند "روسو" ، مثلاً ، هي "أقدم تكوين إجتماعي طبيعي" وهي أكثر التجمعات طلباً ، ليس بالنصح أو الإلزام ، بل هي طلب تلقائي للبشر كسائر الخلائق الأخرى ، كذلك رأى "أرسطو" و "لوك" وغيرهم .


                فالأولاد يتعلقون بوالديهم ، برباط ضروري ، طالما هم محتاجون إليهما ، وعندما تنتهي تلك الحاجة ، تتحلل بطبيعتها الرابطة .  فإن إستمرت ، فهي تستمر إختيارياً وتبقى العائلة قوية ، وهذا هو الفوز العظيم !


                فمن الأسرة الصالحة ، التي تسهر على نموها الدولة ، تتكون أمة قوية متحابة ، كالحب الذي تكونت به النواة الأولى بزواج الأبوين .  وإذا تم ذلك الإنتقال من الأسرة التي إنتهى دورها الأساسي، إلى الدولة ، بشكل تلقائي وهادئ ، إنتقلت سلطة الأب على أسرته إلى أيدي الدولة ، لتستخدمها في صالح الطرفين – الجماعة والفرد – بدو ن إستبداد أو شبهة إستعباد ، وتصبح العلاقة هنا علاق إحترام ، وليست مجرد طاعة "لمتحكم غشيم" .

                والخلاصة إن المسئولية تبدأ من الأسرة ، والأب المسئول عن نشأتها ، ومنه إلى أفرادها ، بعدما يبلغون سن المسئولية ، ثم مسئولية الدولة عن الإثنين ، بأن تدعم الوسائل الكفيلة بالإعتماد على النـفـس ، ثم إسعاد المجتمع والأمة ، عن طريق الأسرة الحريصة ، الواعية ، التي لا تلقي بأولادها في الطرقات ، بغير محاسبة أو عقاب .

                والأمل في أصحاب الرأي بالمجالس القومية المتخصصة ، مثلاً ، التي نرجو أن تكون المهام الخطيرة المنوطة بهم ، موضع تقدير ، وهم على مدى علمنا على قدر كبير من الحنكة والحكمة ، وفي إستطاعتهم إحياء دور الأسرة ، ليس بقانون يفض مشاكلها ، بل بفكر منظم ، وحساب سديد ، يضيق المكان هنا بتفصيل خطواته ، وإلا ، فلا دولة قوية بدونها .

د/ جمال غوردون





الأحد، 24 فبراير 2013

لماذا الهدم لماذا ؟

عندما قررت حكومة مستر شارون – رئيس وزراء إسرائيل الاسبق – أن تنسحب قوات إحتلالها من قطاع غزة ، فهي فعلت ذلك لأسباب ، لا يعلم إلا الله وحده الغرض منها ، ومدى آثارها مستقبلاً , ولكن المؤكد أن الفكرة لم تهبط على عقل تلك الحكومة فجأة ، وبلا تخطيط أو مخطط ، فيجب أن يعمل له أقرب حساب إلى الواقع .     فالدخول في عقلية المخلوقات هو أصعب أنواع الإقتحام ، فكثيراً ما يبدو في الظاهر ، لا يستطاع معرف طبيعته في الباطن .

فقطاع غزة ليس مجرد شريط أرض يقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من فلسطين المحتلة ، وإنما كان الحديث الغالب بين رجال الحرب الإسرائيليين عندما يفكرون في أي تحرك حربي ، ودائماً كانت تقترن سيرة غزة مع كلمة شرم الشيخ ، ربما قبل أن يعلمها رجل الشارع المصري.  إذ أن غزة تقع في شمال خط وهمي يصل بينها وبين شرم الشيخ ، يضم ميناء إيلات شرقاً وهو الهدف الرئيسي للإهتمام ببلدة شرم الشيخ ، التي تقع جغرافياً على بعد أربعة كيلومترات جنوب مضيق تيران ، والذي تم تأمينه لمرور السفن الإسرائيلية من البحر الأحمر إلى إيلات ومن ثم إلى البحر الأبيض ، لإنشاء أنبوب نفطي بسعة ستة وثلاثين بوصة ، أفسده عليهم الرئيس الراحل أنور السادات بإنشاء خط "سوميد" من السويس إلى سيدي كرير .

إلا أن هذا التاريخ الموجز ، عن النوايا السابقة ، لا يغني عن التفكير في أهمية الإنسحاب من قطاع غزة للإسرائيليين قبل أن يكون مهماً للفلسطينيين ، أصحاب الأرض .  فعندما كان قطاع غزة لا أكثر من مائة ألف لاجئ فلسطيني ، وكان من السهل على الجنرال تال إزرائيل أن يقتحم القطاع ويحتله في حرب 1956 ، وهو الأمر الذي تجنبه موشيه ديان في حرب 1967 ، عندما بلغ تعداد أهل غزة أكثر من مائتي وخمسين ألف نسمة ، فخرج من ذلك المأزق بأن إلتف حولها بدون إحتلالها ، حتى لا تقاومه تلك الكتلة البشرية ، التي كان المفترض أن تصل إليها قوات سورية وعراقية لقطع الطريق على قوات 1967 .

أما الآن وقد بلغ تعداد أهل غزة مليون وثلاثمائة ألف مواطن بالتقريب ، فإنها لم تعد ذات أهمية إستراتيجية ، وإن كانت قد خدمت كأهمية تكتيكية في الماضي القريب ، غير أنه إذا إستمر إحتلالها على مدى طويل ، ستصبح عبئاً كبيراً لا تتحمله القوات الإسرائيلية ، ولاالمعنوية الجماهيرية في إسرائيل .
إذن فالإنسحاب ليس مصدره النوايا الحسنة نحو السلام ، ولكنه مجرد التخلص من أحمال كبرى شأنها أن يضعف القوة الإسرائيلية ، وليس تعزيزها الإستراتيجي .

إلا أن ما آثار تفكيري ، هو إصرار المستوطنين الإسرائيليين على هدم 1700 وحدة سكنية تتمتع بطراز هندسي جميل ، وربما تكلفت أموالاً ، لو أراد الفلسطينيين إعادة بناءها ، لأنفقوا أضعافها بلا شك .. !  وربما يسير ذلك التفكير السقيم مع سياسة الجشع التي تهدم لتعيد البناء ثم تعيد الهدم لإعادة البناء ، وهو ما نراه يجري  الآن على أرض العراق .  فهي ليست فقط سياسة إقتصادية سوداء ، بل هي هدم للمعنويات قبل أن تكون هدم للأبنية .

ولقد حدث في عام 1956 ، عندما إنسحبت القوات الإسرائيلية بعد العدوان الثلاثي .. أمر بن جوريون بأن تدمر جميع الطرق من خلف القوات المنسحبة ، وربما كان ذلك لهدف حربي ، أما عند الإنسحاب الثاني .. إشترط الرئيس أنور السادات ألآ يدمر متر أرض واحد ، أو منشأة واحدة أنشئت على أرض سيناء , وكان له ما أراد ، وكان لهم ما أرادوا ، وهي معاهدة سلام عندما نتجت عن بادرة أدت إلى طريق السلام مع مصر .

أما في حالتنا هذه فإن هدم تلك المساكن لا ينم على أن الإنسحاب هو مبادرة سلام ، لا من جانب المستوطنين ، ولا من جانب الحكومة الإسرائيلية – إذا سمحت لهم بهدمها- ولا يقبل حديث من المقاولين الأمريكيين بأنها ستعيد بناءها على نفقة الحكومة الأمريكية ، كما لا يقبل أن تكون مصر طرفاً في إزالة مخلفات الهدم ، كما أشيع علينا ، بل وأن إستعمال المكان سواء بقيَ خاوياً أو هدم ، فإنه يجب أن يعمل له سوراً ، وتعلق عليه لافتة ، مكتوب عليها "مقبرة السلام".  إذ كيف يعقل أنه بعد هدم آلاف المساكن في غزة بفعل الأعمال العسكرية الإسرائيلية ، أن يتم هدم مساكن ، لو أهديت إلى الفلسطينيين ، لكانت بادرة سلام حقيقية يقبلها العقل ، وإن كان أمر الإنسحاب لا زال مجهولاً ، فيبدو أنه طريق لمزيد من سفك الدماء ، لا نعلم أطرافه .

د/ جمال غوردون

الاثنين، 18 فبراير 2013

                       التسمم كرها وتلوث المياه
الترع والبحيرات السبع الشمالية تزداد تلوثا من عام لاخر، وتدعونا للالتفات اليها بعناية علمية وخلاقة، للاستفادة منها، وربما تنقلب الي مخزن اضافي للمياه في المستقبل، بدلا من الوان الصرف التي تغرقها بالملوثات، وتجعلها مصدرا للتسمم عند التعرض لسميتها، غذاء او استحماما، كما تقتل ثروة سمكية كامنة وغير مستغلة، لبعدها عن الطبيعة التي تنمو فيها الاسماك والقشريات.
فبداية من ترعة المحمودية المتفرعة من فرع رشيد للنيل- وهي مصدر جزئي لمياه
الاسكندرية ورئيسي لمياه مدينة »ابوحمص« نجد انها تتلوث من مصدرين، أولهما مصرف ادكو وثانيهما الصرف الصحي من كفر الدوار وهو الاكثر تلويثا بسبب نزح المخلفات وتركها علي جانبي الترعة، ليتم معالجتها في باب شرقي والسيوف وذلك من واقع الابحاث الميدانية للمعهد العالي للصحة بالاسكندرية.
اما بحيرة »مريوط« فقد تعرضت لتلوث فادح بسبب تكاثر المساكن والمصانع حولها كما انخفض ناتج صيد الاسماك من 01 ملايين كيلو عام 1691 الي بضعة الاف حاليا وقد تسبب تلويثها في امراض معوية ميكروبية للبشر وتسمم للاسماك بمخلفات الصناعة وبخاصة ارتفاع نسبة الفوسفات الاتي من المبيدات لزيادتها في انتاج المواد العضوية الضارة مما يقلل نسبة كبري من الاكسجين الذائب بل وأحيانا انعدامه كلما ازدادت نسبة الفوسفات في البحيرة.
اما بحيرة المنزلة فالبرغم من علو التلوث في مدخلها الا انه بعد مسافة حوالي 6 كيلو مترات تخف نسبة المواد السامة والميكروبات والطفيليات الي حد يسمح بنمو النباتات الدقيقة PHYTO-PLANKTON التي تتغذي عليها الأسماك الصالحة للأكل بشرط إجادة طهوها أو تمليحها.
غير أن أحوال بحيرة »ادكو« عند
جنوب خليج »أبو قير« تختلف باختلاط مياه البحر الأبيض مع مياه البحيرة فملوحة المياه تتدرج الي خمس درجات من التركيز الدرجتان الاولي والثانية تتلقيان ضخ المياه الملوثة من محطة »الطابية« بالإضافة لتلقي مثلها من بحيرة »ادكو« عن طريق قناة »المعدية« ثم تختلط بمياه البحر الابيض فتزداد ملوحتها شتاء وتعلو نسبة الاكسجين وتقل مع فيضان النيل صيفاً التي انخفضت بعد بناء السد العالي وحل محلها تلوث البحيرة بمياه صناعة الورق التي زادت من سمية المياه تلك الأحوال في أربع من البحيرات الشمالية التي تتطلب المزيد من التفكير في توحيد شبكة الصرف الصحي بالاسكندرية في البحر أو الإتجاه الي الصرف في الظهير الصحراوي وهو ما يحدث حثيثاً في الوقت الحاضر مع الاستفادة مستقبلاً من تعميق تلك البحيرات وتطهيرها لتتلقي مياه النيل المهدرة في البحر في موسم الفيضان وتخزينها مهما قل حجمها علي الأقل لري هذا الجزء والذي قد يمتد الي صحراء مطروح للاقتراب من مياه البحر وتعزيزه بعملية تحليتها المنتظرة في أضيق الحدود.
وأخيراً الاحتجاز »المصغر« للمياه في حمامات السباحة أو خزانات المياه بأسطح المنازل والمصانع كمصدر ظاهر أو خفي للتلوث وهو احتياط يمكن تجنبه حتي لا تنقطع المياه في بلد يتمتع بفيض منها بحجة انفجار مواسير قديمة أو انخفاض الضغط بالمواسير، بسبب البناء العشوائي أو المرخص به المخالف، بلا حساب لمياه أو كهرباء أو صرف صحي ولتجنب تلوث الخزانات بيولوجياً أو كيميائياً يجب ان تكون مصنوعة من الخرسانة المبطنة أو البلاستيك غير المسرطن مع الرقابة الدورية لمراعاة النسب القياسية للملوثات، لقياس الحموضة ونسبة الكلورين وشفافية المياه وأخد عينات لاحتمال وجود أي ميكروبات أو فطريات منعاً لإحتقان
العيون أو تسلخ الجلد وإصابته بالفطر، أو الإصابة بالحميات وكله تسمم كرهاً وجهالةً!...

د/ جمال غوردون

نشر في الأخبار يوم 03 - 06 - 2010

الجمعة، 8 فبراير 2013



                    بنية الوطن


بعدما سقط دستور 1971 بقيام ثورة 25 يناير 2011 ، بما احتواه من نواقص وعيوب ، ووعود بعيدة المنال ، انكشفت بعد سقوطه نقاط ضعفه ، وارتسم في الأذهان طيف الدستور الذي يتمناه كل مفكر أو مهموم بشعب مصر .
فالدستور القريب من التطبيق ، والمعبر عن حقيقة صورة البلاد ، يجب أن يعطي انطباعة شاملة يتخيلها كل قاريء أو مواطن ، حتى تنطبع في الأذهان عدة صور متحركة تدور في المخيلة وتسكن في الوجدان ، وعندئذ يترسخ انتمائه لوطنه وتتقوي عزيمته على الدفاع عن كيانه .

فالمواطن هو الذي يضع القوانين وتكتب بإسم الشعب الأحكام القضائية ، فعليه أن يؤدي واجباته الذي يستحق عليها مكافأته . فالدستور مثل زجاجة من الدواء ملصق عليها محتوياتها المحكومة بنسب مدونة في دستور دوائي ، ولا يجوز التعديل فيها ، أو في عبوتها ، بالزيادة أو النقصان ، حتى لا يضار متعاطي الدواء بالزيادة ، ولا تقل فاعليته بالنقصان ، ولا تفسد بالتخزين .
تلك المقارنة العلمية استدعت الذهاب إلى رأي جديد يُطرح على أهل الفكر عند اجتهادهم في تدوين دستور عصري يخص بلادنا بالذات .
فبناء على ما ظهر على السطح من خبايا ونوايا ، كانت غاطسة ، إلى أن سنحت لها الفرصة بأن تصيح وتزعق في الميادين ، لتشيع البلبلة الهوجاء وتدعو إلى الهياج ، فطغى صوتها الأجش على الحوار الخافت للعقلاء ، ونداء ذوي الحنكة والرصانة والتقوى العميقة والإيمان الراسخ ... حتى أُتيح لكل مخرّف وواهم ، أو حاقد وطامع ، أن يتحدث عن: "تقسيم مصر إلى مقاطعات ، وأن سيناء من حق الفلسطينيين -ومنهم طبعاً إلى الإسرائيليين- وأن مياه النيل ستصبح منحة من بلاد منابعه ، وأن أراضي مصر معروضة للبيع لغير المصريين !!..." وما إلى ذلك من تراهات وهرتقة .



لذلك كان لزاماً علينا أن نقترح ديباجة للدستور المصري الحديث . فالزمان غير الزمان الذي مضى ، والعلاقات غير العلاقات التي كانت ، بحيث تكون تلك الديباجة جزءاً لا يتجزء من دستورنا ، ودعامة له ، وبغير لبس أو غموض ، حتى يقوم كل مصري بواجبه نحو وطنه ، ويدافع عنه ، ويكون كل مشرع على علم بما يشرعه ، ويمنع كل قائد نزيه ، عن الميل أو الهوى .... فيكون قراره ، بالتحريم أو الإباحة أو بالدفاع عن الوطن ، قرار شعب ، وليس قرار فرد .
فيجب أن يقدّم الدستور الجديد ، صورة كاملة لذلك الكيان العظيم من حدود مسجلة دولياً ، ونيل يروي أراضيها ويعطي لشعبها الحياة ، كما يحمي ما في أجوائها من طير وما في صحاريها من حيوان نادر وما في بحارها من أسماك ومرجان ، وما فيها من محميات طبيعية وما في باطن مياهها الإقليمية من ثروات تكمن فيها مصادر طاقاتها الطبيعية ، وبحيرات ، وقناة حفرتها أيادي أبنائها ، فوصلت بين بحرين عظيمين وجمعت بين قارتين ، وما فيها من آثار –منتشرة عالمياً- لحضارات سكانها بكل مكوناتها البشرية من بدو ، ونوبيين ، وعربان ، عاشوا على مر العصور الفرعونية والإغريقية والرومانية والمسيحية والإسلامية ، وعلى الخصوص أراضي فضاء لا يجوز لغير أولادها أن تُستغل أو تُمتلك ..... وكلها مكونات توجب –عند التعرض لها ، داخلياً أو من الخارج- الدفاع عنها شعبياً أو عسكرياً .                                                           
                                                                                                                  د.جمال غوردون
وكأنكم كلكم رؤساء مصر


وحتى لا تحزنوا أو تتململوا من نتيجة إنتخابات ، هي أصلاً رغبة مزيج الشعب المصري ، أو مزاجه ، ولم تكن ضد شخصكم ، فالفوز والخسارة يأتي من الشعب وعليه ، ويرتد إلى مواطنيه الذين لم يقتنعوا بالوعود التي أعلنت عليهم .  فإن كان مقصدكم هو مصلحة الوطن ، فعليكم أن تثبتوا ذلك بإستمراركم في العمل من أجل مصر العظيمة ، وإليكم من الأمثال كثيراً ، بل وعليكم أن تشكروا من لم يقتنعوا لأنهم أطلقوا لكم حرية العمل الوطني الصحيح من واقع مواهبكم وملكاتكم .
فلقد استمعنا إلى خلاصات البرامج التي أعدها ثلاثة عشر من الذين رشحوا أنفسهم لرئاسة جمهورية مصر ، فكان بعضهم يتناول عموميات من الإصلاح ، وخصوصيات من التنمية التي اعتقدوا أنه الطريق إلى انقاذ سفينة مصر من الغرق ، في بحر من الضديات والتناقضات والعنتريات ، فوعدوا ناخبيهم بوعود أغلبها غير مدعم بالتمويل الكافي ، أو حتى الكشف عن مصادره ، أو وسيلة كبحهم لجماح الموظفين والعمال الذين لا هم لهم إلا المطالبة بجبر ما فاتهم من دخول ، تجعلهم يصلون بالكاد نحو خط الفقر ، وليس تحته ، ولم يقدموا ما يستحلوا به مكافأة عملهم .
وقد طال بنا الزمن الذي طالب فيه السابقون بمكافحة الآفات الرئيسية ، وهي:  الفقر والجهل والمرض ، وقد استراحوا من المطالبة بحقوقهم بطريق الموت ، الذي أراحهم من الكفاح الصامت ، إلى أن وصلنا للمطالبة الثورية ، فجعلت حل مشاكل أصعب من الفقر والجهل والمرض ، وهي الوعي بالظلم ، والجرأة على المجاهرة بإستخلاص الحقوق .... ولكنها في هذه المرة تمتطي جياد الفوضى ، وجِمال العنف ، مثل "موقعة خيبة الأمل"!  وبعد أن زُوِدَت بأسلحة تنم عن مقاومة خبيثة يستعدون لها ، ويشتاقون إليها الفوضويون الغافلون ، فلم نسمع من الذين رغبوا في رئاسة مصر العظمى ، والذين نالوا من "الشعب" نصيبهم العادل من الانتخابات ، سبب عزوفهم عن الإقتراب من المسائل الساخنة والمحرقة  . . . ليس لحداثة درايتهم ، وضحالة معلوماتهم بما تقف عليه مصر العظيمة من كنوز طبيعية وبشرية متميزة ، ولو سمع الناخب المصري أي برنامج تبناه أي من الذين رغبوا في رئاستها ، لتفوقوا وأدركوا الحد الأعلى من النجاح .
أما وقد سلك الناخب المصري اللماح بسلوكه الفطري والتلقائي ، وأعطى صوته لمن اعتقد أن وعوده أقرب إلى الواقع ، وأوضح من غيرها .  فهل يمنع ذلك الذين لم يفوزوا احصائياً ، أن يبرهنوا ، في القليل ، على وطنيتهم وصدق نواياهم ، ليمتنعوا عن "الإغواء الثوري الإنتقامي" ، وألا يثيروا الإحتجاجات ويضعوا المعوقات ، لينضموا إلى الطغمة الخبيثة التي تستعد لإشعال شرارات الحرائق المذهبية ، سواء أكانت دينية أو فكرية ، ليعكروا صفو ذهن الرئيس المنتظر ، ويعلموا أن غالبية الشعب المصري اتجهت إلى معاونة رئيسها على قيادة البلاد بأسلوب من الحكمة والحزم .
فكم رأينا من منافسين حزبيين وسياسيين محنكين ، لم يبخلوا على أوطانهم لمجرد عدم حصولهم على أصوات مواطنيهم ، بل نهضوا بجهودهم الطيبة وحسن نواياهم لصالح بلادهم .  مثال ذلك انصراف "آل جور" إلى اهتمامه بأخطر مهمة لحماية البيئة ، وتكوين هيئة لمكافحة التدهور البيئي بعد أن خسر أمام "جورج بوش" ، و"توني بلير" رئيس وزراء انجلترا الذي كُلف بإستعمال مواهبه في قضايا الشرق الأوسط ، و"جوردون براون" الذي اهتم بسياسات مكافحة الفقر ، و"كوفي انان" الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة لإيجاد حل للمشكلة السورية ، و"جون كيري" و"جون ماكين" في زيارتهما الأخيرة لمصر ، وحتى "هيلاري كلينتون" بعد هزيمتها أمام "أوباما" اتخذها الرئيس ذراعه الأيمن في إدارة البلاد ، وزوجها "هنري كلينتون" الذي تطوع لقيادة مراقبة الأعاصير السونامية ، والتنبوء بموعد حدوثها .  ولا يفوتنا قائدهم السياسي والدبلوماسي المخضرم "جيمي كارتر" الذي تنقل بين أفريقيا وتركيا وأخيراً إلى مصر ، ليطمئن الشعب والعالم ، بأن الإنتخابات غاية في النزاهة والمدنية .
فهل يطمع الشعب العظيم في رحابة نفوسكم ، لتثبتوا إن الوطن فوق المصلحة الشخصية ، وأن تكونوا جماعات من حكمائها ، فكما قال مارتن لوثر كينج " علينا أن نتعلم كيف نعيش معاً إخوة أذكياء ، وإلا سوف نموت جميعاً فرادى  أغبياء  " ، واطرقوا أبواب الرئيس طوال مدة رئاسته ، لمعاونته ، وإني أوكد لكم ، أنكم لن تجدوها مغلقة !
                                                                                                                                                                                 د.جمال غوردون
نشرت فى27 مايو 2012