لماذا الهدم لماذا ؟
عندما قررت حكومة مستر شارون – رئيس وزراء إسرائيل الاسبق – أن تنسحب قوات إحتلالها من قطاع غزة ، فهي فعلت ذلك لأسباب ، لا يعلم إلا الله وحده الغرض منها ، ومدى آثارها مستقبلاً , ولكن المؤكد أن الفكرة لم تهبط على عقل تلك الحكومة فجأة ، وبلا تخطيط أو مخطط ، فيجب أن يعمل له أقرب حساب إلى الواقع . فالدخول في عقلية المخلوقات هو أصعب أنواع الإقتحام ، فكثيراً ما يبدو في الظاهر ، لا يستطاع معرف طبيعته في الباطن .
فقطاع غزة ليس مجرد شريط أرض يقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من فلسطين المحتلة ، وإنما كان الحديث الغالب بين رجال الحرب الإسرائيليين عندما يفكرون في أي تحرك حربي ، ودائماً كانت تقترن سيرة غزة مع كلمة شرم الشيخ ، ربما قبل أن يعلمها رجل الشارع المصري. إذ أن غزة تقع في شمال خط وهمي يصل بينها وبين شرم الشيخ ، يضم ميناء إيلات شرقاً وهو الهدف الرئيسي للإهتمام ببلدة شرم الشيخ ، التي تقع جغرافياً على بعد أربعة كيلومترات جنوب مضيق تيران ، والذي تم تأمينه لمرور السفن الإسرائيلية من البحر الأحمر إلى إيلات ومن ثم إلى البحر الأبيض ، لإنشاء أنبوب نفطي بسعة ستة وثلاثين بوصة ، أفسده عليهم الرئيس الراحل أنور السادات بإنشاء خط "سوميد" من السويس إلى سيدي كرير .
إلا أن هذا التاريخ الموجز ، عن النوايا السابقة ، لا يغني عن التفكير في أهمية الإنسحاب من قطاع غزة للإسرائيليين قبل أن يكون مهماً للفلسطينيين ، أصحاب الأرض . فعندما كان قطاع غزة لا أكثر من مائة ألف لاجئ فلسطيني ، وكان من السهل على الجنرال تال إزرائيل أن يقتحم القطاع ويحتله في حرب 1956 ، وهو الأمر الذي تجنبه موشيه ديان في حرب 1967 ، عندما بلغ تعداد أهل غزة أكثر من مائتي وخمسين ألف نسمة ، فخرج من ذلك المأزق بأن إلتف حولها بدون إحتلالها ، حتى لا تقاومه تلك الكتلة البشرية ، التي كان المفترض أن تصل إليها قوات سورية وعراقية لقطع الطريق على قوات 1967 .
أما الآن وقد بلغ تعداد أهل غزة مليون وثلاثمائة ألف مواطن بالتقريب ، فإنها لم تعد ذات أهمية إستراتيجية ، وإن كانت قد خدمت كأهمية تكتيكية في الماضي القريب ، غير أنه إذا إستمر إحتلالها على مدى طويل ، ستصبح عبئاً كبيراً لا تتحمله القوات الإسرائيلية ، ولاالمعنوية الجماهيرية في إسرائيل .
إذن فالإنسحاب ليس مصدره النوايا الحسنة نحو السلام ، ولكنه مجرد التخلص من أحمال كبرى شأنها أن يضعف القوة الإسرائيلية ، وليس تعزيزها الإستراتيجي .
إلا أن ما آثار تفكيري ، هو إصرار المستوطنين الإسرائيليين على هدم 1700 وحدة سكنية تتمتع بطراز هندسي جميل ، وربما تكلفت أموالاً ، لو أراد الفلسطينيين إعادة بناءها ، لأنفقوا أضعافها بلا شك .. ! وربما يسير ذلك التفكير السقيم مع سياسة الجشع التي تهدم لتعيد البناء ثم تعيد الهدم لإعادة البناء ، وهو ما نراه يجري الآن على أرض العراق . فهي ليست فقط سياسة إقتصادية سوداء ، بل هي هدم للمعنويات قبل أن تكون هدم للأبنية .
ولقد حدث في عام 1956 ، عندما إنسحبت القوات الإسرائيلية بعد العدوان الثلاثي .. أمر بن جوريون بأن تدمر جميع الطرق من خلف القوات المنسحبة ، وربما كان ذلك لهدف حربي ، أما عند الإنسحاب الثاني .. إشترط الرئيس أنور السادات ألآ يدمر متر أرض واحد ، أو منشأة واحدة أنشئت على أرض سيناء , وكان له ما أراد ، وكان لهم ما أرادوا ، وهي معاهدة سلام عندما نتجت عن بادرة أدت إلى طريق السلام مع مصر .
أما في حالتنا هذه فإن هدم تلك المساكن لا ينم على أن الإنسحاب هو مبادرة سلام ، لا من جانب المستوطنين ، ولا من جانب الحكومة الإسرائيلية – إذا سمحت لهم بهدمها- ولا يقبل حديث من المقاولين الأمريكيين بأنها ستعيد بناءها على نفقة الحكومة الأمريكية ، كما لا يقبل أن تكون مصر طرفاً في إزالة مخلفات الهدم ، كما أشيع علينا ، بل وأن إستعمال المكان سواء بقيَ خاوياً أو هدم ، فإنه يجب أن يعمل له سوراً ، وتعلق عليه لافتة ، مكتوب عليها "مقبرة السلام". إذ كيف يعقل أنه بعد هدم آلاف المساكن في غزة بفعل الأعمال العسكرية الإسرائيلية ، أن يتم هدم مساكن ، لو أهديت إلى الفلسطينيين ، لكانت بادرة سلام حقيقية يقبلها العقل ، وإن كان أمر الإنسحاب لا زال مجهولاً ، فيبدو أنه طريق لمزيد من سفك الدماء ، لا نعلم أطرافه .
د/ جمال غوردون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق