الأربعاء، 27 فبراير 2013

الأسرة ،  ثم الدولة ، فالفرد

                إختارت الإنسانية نظام الأسرة كوحدة إجتماعية تتكون من أب يرتبط بزوجة ينتقيها ، ويحبها ، ثم يتولد عن ذلك الحب أولاداً يحبهم أيضاً ، ويرعاهم بقدر ما يستطيع من جهد يبذله ، لإسعاد تلك الوحدة المقدسة ، التي منها تتشكل المجتمعات والأمم .

                وبفحص ذلك التشكيل الأزلي ، نجد أنه يبدأ برغبة الفرد في إشفاء غريزته الطبيعيـة ، مـن ناحيـة ، ثم تخليق مجموعة تحيط به ، وترضيه ، وتتكرر فيهم صورته ، وتنتقل إليهم أمواله ، فهو المسئول الأول عن إعالة تلك المجموعة التي أسهم بها في بناء وطنه .



                وقد أعطيت للأسرة المكونة من شخصين وأولادهما إسم "الأسرة النووية" أي نواة المجتمع ، كما أطلق على الأسرة الأكثر عدداً ، وأوسع إنتشاراً ، إسم "الأسرة الممتدة" ، وهو تعبير تقني – للتمييز بينهما .  فالأخيرة يمتد تكوينها إلى الأقارب والأصهار ، لتصبح "عزوة" متعددة الأنشطة ، ذائعة الصيت والسطوة ، إلى أن بدأ هذا النوع في الإنحسار عندما أدخلت عليها أنظمة أخرى ، إستندت إلى فكر مخالف ، فبدأ نزوح أهل الريف بكثرة إلى الحضر وإزداد عدد الأسر النووية ، غير المتساندة تقليدياً ، أو مادياً ، متجردة من التكافل والإحسان ، ونقلت إلى الحضر أعباء أضافت إلى همومه ، وأعتبر الأفراد ، وليست الأسر ، هم الذين تتكون منهم الأمة ، وتقع على أولادهم مسئولية العمل من أجل الجميع ، على أن تتكفل الدولة بإطعامهم ، وتعليمهم ، وتكسيتهم ، وتشغيلهم ، وحتى الترفيه عنهم .

                وبذلك إنتقلت عادات الريف ، وطرق المعيشة فيه ، إلى الحضر ، وأخذت معها الأخلاقيات المقيدة للإباحية ، والجهر ، فإنقلب ميزان الإحترام المتعارف عليه ، وأطرح الإلتزام بالقيم ، وتوارى الإذعان لنداء الضمير ، وسهل الإختفاء عن طائلة القانون ، وأخذ دور المسئولية عن الأسرة في الإضمحلال ، وإنتقل إلى الدولة ، بغير إستعداد .

                غير أن ما حدث يخالف روح الدساتير التي وضعتها الدول ، تمجيداً للأسرة بشكل عام ؛ فالدستور المصري ينص في المادة التاسعة ، على أن "الأسرة أساس المجتمع ، قوامها الدين ، والأخلاق ، والوطنية ؛ وتحرص الدولة على الطابع الأصيل للأسرة المصرية ، وما يتمثل فيه من قيم وتقاليد ، مع تأكيد هذا الطابع ، وتنميته في العلاقات داخل المجتمع المصري".  وقد تأكد ذلك المعنى في المادة الثانية عشر بإلزام المجتمع والدولة في إتباع هذه المباديء .


                وبغير تعليق على تلك النصوص التي تتحدث عن نفسها ، والواضح أنها لم تأتي من فراغ ؛ فالأسرة ، مهما بلغت من إتضاع ، هي أصل المحبة والحنان ، و"اللقمة" السائغة ، والملبس النظيف ، ومحط للراحة ، والتفاهم ، وإكتساب المعرفة والخبرة من الوالدين تمهيداً للنضج الآتي لا محالة منه ، وإن كان "الطابع الأصيل" للأسرة المصرية يحتاج لمزيد من التوضيح ، هو وصور الحرص ، ومدى مسئولية رب الأسرة عنه .

                إن ذلك الإلتصاق بين الآباء وأولادهم ، هو سر من أسرار السلام الإجتماعي , وعامل من عوامل التقدم وإثبات الذات ، وهو ذو تأثير فعال على سلوكيات الأولاد وجيرانهم ؛ فإذا ما ضاع ذلك الأساس التربوي من أيدي الأسرة ، سيضيع قطعاً من بين أيدي المدرسين .

                فالوالد الذي يطول تركه لمنزله ، أو يسمح لأولاده إطالة البقاء خارج المنزل ، يزرع بذرة التفكك والإتجاه نحو سبل أخرى للسعادة .  كذلك فإن المدرسة ، وهي الأسرة التكميلية ، التي تتهاون في الحفاظ على تلك الحلقة المشتركة بينها وبين البيت ، تفتح الباب للأولاد أن ينحرفوا ، ويتركوا الدراسة مجهين إلى الكسل والفساد ؛ وكما يقول المثل: "إبنك على ما تربيه" .

                لاشك في أن الأسرة قد تأثرت ، وتفككت ، بل وتدهور دورها ، قبل أن تؤدي وظيفتها الأساسية .  وقد تضاعف ذلك عدة مرات عندما تبين أن متوسط عدد إشهادات الطلاق قد بلغ سبعين ألف في العام ، وربما كان نتيجة للتزايد الجزافي ، لمتوسط عدد الزيجات ، الذي بلغ نصف مليون عقد سنوياً .

                فهل تربى في أسرة من ذبح والده ، أو قتل جاره ؟  وهل تربت في أسرة من قتلت زوجها بالإشتراك مع صديقها ؟  وهل تربى في أسرة من إعتدى على مدرسه وطعنه بمطواه ؟  وهل تربى  في أسرة مئات المزورين للعقود والبطاقات الشخصية ؟  وهل تربت في أسرة من عذبت خادمتها وأحرقتها بالنار ؟  وهل تربى في أسرة الآلاف من سائقي سيارات الموت ، "الميكروباص" ، الذين ضربوا بقانون المرور عرض الحائط وتحدوا السلطة في إرتكاب جرائمهم اليومية ؟  وهل . . . وهل . . . ؟  يضاف إلى ذلك ، أن ليس كل تجمع للأسر النووية يستوفي شروط الأسرة ، ذلك لأن البنية التي نشأوا فيها ، والدافع إلى تكوينها غير سليم .

مثال ذلك العشوائيات المنتشرة حول العاصمة والمدن الكبرى ، التي لا يجدي معها أن تنقل من مكانها ، شديد الإنحطاط ، إلى مكان أفضل صحياً وإنمائياً .  ولنا في عشوائية "الكرانتينا" بالإسكندرية ، تجربة شخصية ، ودرساً محزناً ، لكنه ليس مانعاً من التكرار ، على الإطلاق .
                               
                فما أن تم "تهجير" تلك العشوائية ، وتعدادها 17 ألف مخلوق ، يعجز الخيال عن وصفهم ، إلى حي الناصرية الجديدة ، راح "سكانها" الجدد يخلعون الصنابير ومواسير المياه ، قبل أن يخلعوا الأبواب والنوافذ ، ليبيعوها في مكان آخر !

                إن مثل ذلك العمل ، الذي بدر عن مجموعة كبيرة من الناس ، ليس فيهم أسر نووية ، ولا أسر ممتدة ، بل ومنهم من لا يعلم من هم والديه ، هو مثل صارخ على ضرورة دراسة سكان العشوائيات المنتشرة في أجزاء حيوية بالبلاد .  فمنشآتها بالقطع غير قابلة للتطور ، كما ينادي به البعض ، بل مآلها إلى زوال ، وإنتقال الأسر معلومة الأصل ، والموطن ، إلى أماكن أخرى – وإلا كان نقلها مثل نقل المقابر ، مع الفارق بأن الراقدين في المقابر لا يضروا مجتمعاتهم ، مثلما يضرها الأحياء الذين بلا تربية أسرية .

                إن المفهوم العام للأسرة يجب أن يتضح لجميع مستويات المجتمع مهما علا أو إنخفض شأنهم ، ودور رب الأسرة يجب أن يتعاظم .  فالأسرة عند "روسو" ، مثلاً ، هي "أقدم تكوين إجتماعي طبيعي" وهي أكثر التجمعات طلباً ، ليس بالنصح أو الإلزام ، بل هي طلب تلقائي للبشر كسائر الخلائق الأخرى ، كذلك رأى "أرسطو" و "لوك" وغيرهم .


                فالأولاد يتعلقون بوالديهم ، برباط ضروري ، طالما هم محتاجون إليهما ، وعندما تنتهي تلك الحاجة ، تتحلل بطبيعتها الرابطة .  فإن إستمرت ، فهي تستمر إختيارياً وتبقى العائلة قوية ، وهذا هو الفوز العظيم !


                فمن الأسرة الصالحة ، التي تسهر على نموها الدولة ، تتكون أمة قوية متحابة ، كالحب الذي تكونت به النواة الأولى بزواج الأبوين .  وإذا تم ذلك الإنتقال من الأسرة التي إنتهى دورها الأساسي، إلى الدولة ، بشكل تلقائي وهادئ ، إنتقلت سلطة الأب على أسرته إلى أيدي الدولة ، لتستخدمها في صالح الطرفين – الجماعة والفرد – بدو ن إستبداد أو شبهة إستعباد ، وتصبح العلاقة هنا علاق إحترام ، وليست مجرد طاعة "لمتحكم غشيم" .

                والخلاصة إن المسئولية تبدأ من الأسرة ، والأب المسئول عن نشأتها ، ومنه إلى أفرادها ، بعدما يبلغون سن المسئولية ، ثم مسئولية الدولة عن الإثنين ، بأن تدعم الوسائل الكفيلة بالإعتماد على النـفـس ، ثم إسعاد المجتمع والأمة ، عن طريق الأسرة الحريصة ، الواعية ، التي لا تلقي بأولادها في الطرقات ، بغير محاسبة أو عقاب .

                والأمل في أصحاب الرأي بالمجالس القومية المتخصصة ، مثلاً ، التي نرجو أن تكون المهام الخطيرة المنوطة بهم ، موضع تقدير ، وهم على مدى علمنا على قدر كبير من الحنكة والحكمة ، وفي إستطاعتهم إحياء دور الأسرة ، ليس بقانون يفض مشاكلها ، بل بفكر منظم ، وحساب سديد ، يضيق المكان هنا بتفصيل خطواته ، وإلا ، فلا دولة قوية بدونها .

د/ جمال غوردون





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق