الثلاثاء، 19 مارس 2013

                                   بالحزام بدأنا ... والبقية تأتى


.... ونقصد حزام الحزم والالتزام ، وليس حزام الرقص على الأنغام ، كما حاول الساخرون والمتفرجون من على الأسوار أن يصوروه ، ويهونوا من شأنه ، وتصدى المدافعون عنه بدفاع يرتكز على أرضية ضيقة ، وحجة ضعيفة ، وهى التأمين والأمان للسائقين ، والراكبين معهم ، أى الخاضعين لمغامراتهم ورعونتهم ، لعلهم يسلمون أو ينقذون .
          حقاً ، أن من ينظر إلى أحوال النقل والتنقل ، بين الناس والأبنية والممتلكات ، بشتى أنواع المركبات ، الصالح منها ، أو الملوث بالضجيج والسميات ، فإنه لا يرى سوى فوضى تدعو إلى الضحك من شدة الأسى ، والأخذ بالشفقة على المترجلين المذعورين ، وكأنه يتنقل في سيرك ، أو يشهد تمثيلية هزلية تتكرر أمامه يومياً ، بلا رادع ولا وازع .
          أما المضمون الحقيقي "للحزام" ، فلا يقتصر على ظاهره المادي ، وإنما يمتد إلى باطنه المعنوي ، وكنايته العريضة .  فالحزم في اللغة ، هو ضبط الإنسان أمره ، والحازم هو العاقل المميز ذو الحنكة ، المحترز في الأمور . وفي الحديث سئل:  ما الحزم ؟ قال الحزم أن تستشير أهل الرأي وتطيعهم . وفى حديث آخر ، قد نهى  أن يصلى الرجل بغير حزام . فشمل في الحديثين معناهما المادي والمعنوي معاً .
          أن أشد الناقدين لاستعمال الحزام الذى فرضته  " تشريعات المرور " ، الذين انتقدوا التركيز الصارم على من يخالف استعماله ، بينما توجد فى تلك التشريعات مواد معطلة ، تستحق استعمال نفس الدقة فى تطبيقها ، ومواد تحتاج لتعديل ، ومواد يجب أضافتها 0 ومن ثم فلا خلاف بين النقاد وبين المؤيدين ، سوى فى أولويات التطبيق ، أو كما قالها لي سائق التاكسي البسيط : " عايزينا نلبس كرافتة من غير قميص و إحنا فى الخلاء " 0 أى يطالب بارتداء الزي اللائق فى المكان المناسب 0 ومعناه استيفاء الأهم قبل المهم .
          فالجانب المعنوي لربط الحزام ، مهما قصرت مدة القيادة أو سرعتها ،هو أن مجرد الجلوس أمام عجلة  القيادة ، والاهتمام بتأدية واجب لازم قبل البدء فى تسيير المركبة ، ثم النظر فى المرآة للتأكيد من موقع السيارة بالنسبة للمركبات الأخرى ، ثم التحرك بعدها عن يقظة ، يعطى السائق الشعور بأن القانون يحوطه ، فيتذكر منذ اللحظة الأولى ببقية قيوده ومعانيه ، وما أشبه ذلك بخلع أحذيتنا قبل الدخول فى الأمكنة المقدسة ، أو التعقيم قبل دخول غرف العمليات الجراحية ، أو وضع  القاضي وشاح القضاء عند دخوله الجلسة ، أو ارتداء الجندي للزي الرسمي ، وكلها مسبقات الأقدام على فعل جاد توحي للسائق  أنه يقود غرفة حديدية صماء فى وسط مثيلات لها ، وجمهور يقضى مصالحه فى خوف من الخطر ، بجانب  ما تحدثه من ضجيج وتلوث  هواء ، وما يمكن أن تحدثه غرفته من صدام مميت فإذا ما راعى ذلك ، فإنه يبدأ بداية جيدة ، لمنظومة متكاملة من المراعاة والالتزام ، سوف تصبح ، بمضي الزمن ، درب من دروب الحياة .
          ومن هنا جاء هذا العنوان بغرض ترسيخ فكرة الحزم ، فى عقول من ينظرون الى النقل والتنقل على أنه مجرد ميزة أكتسبها الراكب على غيره ، أو عملية تجارية ينظمها القانون ، أو أن القانون ينادى بمثاليات غير قابلة للتطبيق ، فيصبح هو والعدم سواء .   نعم إننا بدأنا بالحزام ، فماهى البقية ؟
          أنها العبارة الفلسفية التي نطق بها سائق التاكسي تعبيرا عن رغبة الناس فى تحقق القانون بأكمله 0 فالوفاء بالالتزام لا يتجزأ 0 مالم يتفق أطرافه على التجزئة، أو ينص عليه القانون 0
          ومما لاشك فيه أن تشريعات المرور وضعت من بعد بحث مطول وجاد ، وعن خبرة، أو عن اقتباس يرجى تحقيقه ، للحد من المخاطر والجماح ، إلا أنه بالرغم من إسهابها فى التفاصيل ، أغفلت وضع السبل المؤدية إلي الحزم فى شكل مواد مكملة لها .
          وأول تلك الوسائل هي رخصة القيادة ، فإصدارها يعنى أنها شهادة بلياقة حاملها ومقدرته على القيادة ، وبالتالي يتحمل من يصدرها مسئولية إصدارها فيما لو ثبت العكس 0أما مسئولية اللياقة البدنية والعقلية فأمر يسأل عنه المتخصصون ، وهى قابلة للإلغاء قبل مضى 3 سنوات على إصدارها إذا ثبت أن حائزها غير جدير بالثقة فى حرصه واحترازه ، فتتجدد على فترات أقصر كلما تقدمت السن 0 أما الرخصة الحرفية فقد نالت حقها فى التشريع .
          غير أن مخالفة أصول التسيير فمفتوحة لمن يتسطيع أن يدفع الثمن ، مما يجعل الغرامة عديمة الجدوى 0 والواجب أن نصدر رخصة تدون بها نقاط تحاسب عن المخالفات، بحسب جسامتها ، فإذا بلغت النقاط حد معين ، يتحتم إلغاء الرخصة أو تعليقها لفترة غير قصيرة .
          أما عن أن الحزام الحالي فهو أنواع غير معتمدة، بحسب مواصفاتها القياسية التي يجب أن تعتمد ، من إدارة المرور المركزية ، حتى الجمهور أن يثق فى فاعليتها ، وفى صحة تركيبها بالمركبة ، حيث أصبح الحزام  سلعة مشبوهة ، فتحت الأبواب للتجارة السوداء . أما عن قيمة الحزام كوسيلة أمان للراكبين ، فأن الأمان المتكامل يتم بتركيب حزامين آخرين بالمقاعد الخلفية ، بخاصة فى كل سيارة تخرج إلى الطرق السريعة . أما عن ضيق الحزام بالنسبة للصدور العريضة ، والبطون المتكرشة ، فالرد عليها بأن أحزمة الطائرات ، وهى أخطر من حوادث السيارات بكثير ، تلف حول البطن، وتفي بالغرض من استعمالها عند الصعود والهبوط بالطائرة .
          ويطول بنا الحديث عن سلامة الطرق هندسيا ، وعن المركبات الفاسدة ، وعن مشاكل سيولة المرور وعلاقتها بمواعيد العمل ، وعن أماكن الانتظار والمبينت ، وعن استعمال آلة التنبيه ، وعن إصدار التراخيص لسيارات جديدة ، وجميعها يحتاج لضوا بط متطورة ، وتعديل تشريعات أخرى تتصل بها ، ولنا فيها آراء لايمكن الخوض فيها هنا .
          غير أن أهم ما لا يجوز أن نغفله ، هو دور المارة والمترجلين ، وما لهم من حقوق ، وما عليهم من واجبات لم تتضح فى تشريعات المرور - فأنهم الطرف الثالث فى مثلث المسئولية،ودورهم جوهرى ، لانهم يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى السائقين ، وأن وعيهم لازال غائب ، وتعليمهم مهمل ، وسلوكهم مخجل .
          فكثيرا ما يتسبب هؤلاء بعشوائيتهم ، فى حوادث غير ضرورية  ، لتحشرهم بين السيارات وعبورهم الخاطىء .  وهم فى ذات الوقت أصحاب حقوق حميهم من اضطراهم بالتسابق كالجرذان لعبور الشوارع، وكأن الغلبة للراكبين ، أما هم ، فمهمشون .
          أن الأمر واضح ، ويتلخص فى أنه غيبة التنسيق بين أطراف المشكلة الثلاث ، التى لايكبح جماحها قانون ، أووضع شرطى لكل سيارة ، وآخر لكل مواطن .
          ومن هنا جاء قصدنا من " الحزام "  المعنوى ، أو معنوية الحزام ، التى يحكمها منطق سليم فى بلد مزدهم ، بتخليق ضميرا المعايشة الجماعية ، عن فهم ينظمه القانون ، ولنبدأ بتحديد، من ؟ يركب ماذا ؟ متى ؟ والى أين ؟ و عندئذ تسير الأمور بانسياب تام فى ظل قوة أهلية تعاون الرسميين على أداء مهمتهم ، على الأقل فى الإبلاغ السليم عن المخالفين ، البعيدين عن نظر القانون .


         فأهلا بالحزام بداية ، وفى انتظار تحقيق الحزم بصبر ، و بعدها أخشى أن يقل دخل الدولة من حصيلة مخالفات المرور !!

= = = = = = = =


الاثنين، 4 مارس 2013

بين التردد ... والاقدام !
                                                             
               أذهب أم أتوارى ــ أبوح أم أصمت ــ أدلى برأيى أم أقاطع ـــ وغيرها من جحافل أخرى من التحوطات ، والتوجسات ، والخلجات ، التى تطرأ على عقل الانسان ، وتتخلل ثناياه ، سعياً وراء اتخاذ قرار فيما هو مطروح عليه ، أو يطلب منه ،الادلاء برأيه فيه ، سواء بالموافقة أو بالرفض ، بالتصديق أو بالمعارضة ، بالافتاء أو بالاحجام عنه ، وبخاصة فى أمر لا يعنيه وحده ، فحسب ، بل يخص قومه وجماعته، وبنى وطنه أجمعين .


فمساءلة النفس تلك ، فى حد ذاتها ، لا تنبع من ضمير منعدم ، ولا تخرج عن عقل سقيم ، بل هى الضمير الحى ، غير المنحاز ، والمبعد عن التحزب ، أو المتأثر بالغوغائية الغاشمة .
فالأمر هنا استفتاء مصيرى ، والاحجام عنه ليس من الفضائل ، بل التردد فى اعطاء الرأى يعنى الابتعاد عن صحيح "المواطنة" ، وهو ليس من شيم الأحرار ، بل من طبائع المقيدين .
 فعندما وضع الأغريق دستورا ، تحلى بحكمة أرسطو وافلاطون ، وكان الهدف منه التحلل من العبودية ، والرضوخ ، والخضوع ، التى مارسها الطغاة ، والحكام المستبدين من عهد الفراعنة ، أو خضوع المحكومين بعظماء بلاد الفرس ، بزغت فكرة "المواطنة" ، أى اعتبار كل شخص يعيش على اراضى الاغريق بأنه مواطن ، حتى وأن كان غريباً ، فله الحق فى المعيشة ، بحرية فى العمل ، وانطلاق الرأى ، وكان وصف الحياة فى ظل الدستور ، هى "الحياة الطبيعية للانسان الطبيعى" ــ ولا تفسير للمواطنة سوى أنها حق فى الحياة الطبيعية لكل انسان ، وهى أيضا عبارة "ثورية" الى اليوم .
وكما قال " بسكال" فالانسان يميل دائما الى التغيير حتى لا يعتريه الملل ، مهما كان التغيير محدوداً ، إلا أنه يبعث الحيوية ، والتوثب ، فى النفوس الراكدة ، فيقول "أن البشر يبذلون كل جهدهم ليجعلوا الحياة فى حالة تدفق وجريان . لأن الراحة التامة ، هى الموت ــــ والانسان لا يكره بقدر ما يكره ، الراحة التامة من غير أن ينخرط فى هيام مستمر أو أنفعال ، أو عمل . بل حتى الحيوان ، قال عنه "داروين" ، أن لدى بعضه غريزة التغيير، فله نزواته ، ونفوره ، واستعذابه للجمال ــ لمجرد التغيير من وقت الى أخر" !
ومعنى ذلك ، أن مقاومة التغيير ، هو رفض للمواطنة، التى تحرر الانسان من القيود ، وأن المناداة بالاستفتاء ، يؤكد ذلك المعنى ، اذ لجأ الحاكم الى استطلاع رأى المواطن ، ليقف على ركيزة ديموقراطية ، فلم يمنع أى قلم ، أو صوت ، من القول الحر ، لكل من تطوع بعرض رأية . أما الساكتون ، فلا عذر لهم عن سكوتهم ، أو عن همسهم ووساوسهم .
فأن أخذنا الأمر بمنطق الواجب ، فأن المجند لا يؤخذ رأيه عند تجنيده ، لأنه واجب وطنى ، والمريض لا يؤخذ رأيه فى علاجه ، لأن شفائه عمل انسانى ،ولا يسأل المصلى عن سبب صلاته ، لانه فرض دينى ، ، وسواء ،أكان دستور قديم أو دستور جديد ، فان الاستفتاء عليه، واجب قومى ، لأنه الشكل الذى يختاره الناس من واقع حالهم وعقيدتهم ، وموروث تراثهم ، لانتظام الحياة العملية ، والتنسيق بين السلطات ، على اساس من العدل والمساواة فى الحقوق ، والتكافل ، والواجبات .
ولئن كانت هفوة الدساتير بألف هفوة ، أو كما يقولون أن "غلطة المعلم بألف" ، فأن المطلوب هو التقدم ، فى حد ذاته ، والوقوف أمام صندوق الاستفتاء هو واجب على مواطن يشعر بالمسئولية ، حتى وأن كانت اجابته "بالسالب" ، فذلك دليل صحى على أن هناك رأى ، ونبض حيوى ، وشجاعة ، وحرية عند من يقدرون شأن المواطنة .
ولم يقاطع المواطن الأوروبى الاستفتاء على "الدستور الأوروبى الموحد" وذلك من واقع تحضره ، وكان ذلك سبباُ من أسباب مراجعة نصوصه للأفضل .
فعلى الله الاعتماد ، بالاقدام من غير تردد ، أو إحجام .
                                                         بقلم :  د/ جمال غوردون